لعل احترام حقوق الإنسان والدفاع عنها بصورة عامة، والدفاع عن الفئات المستضعفة بصورة خاصة، مهمة من أهم مهام المؤسسات الإعلامية الكائنة في مجتمع ما. ولعل الالتزام بالمعايير والقواعد المهنية والقواعد الأخلاقية لأي مهنة لا سيما مهنة الصحافة والإعلام، يعد أحد أهم الأولويات التي يجب أن تولى إليها الصدارة.

لكننا نجد أنه مع سطوة رأس المال على تلك المؤسسات، ومع دخول هذه المؤسسات تحت طائلة الأنظمة الرأسمالية التي تحكمها قواعد السوق في أول الأمر دون النظر إلى المضمون أو المحتوى المقدم على هذه الوسائل، -نقول- إنه مع كل ذلك، بات النظر إلى القواعد المهنية والأخلاقية أمرًا يأتي في ذيل الأولويات، بل لا يأتي على الإطلاق، فنرى أمثلة من تشييء المرأة واستسلاعها “النظر للمرأة باعتبارها شيء مادي وسلعة جنسية”، ونرى أمثلة من إطلاق البيانات والمعلومات غير الصحيحة في البرامج المختلفة، وكذلك اختلاق بعض القضايا للمتاجرة بها كقضية فتيات الليل التي قدمتها أحد البرامج في وقت سابق. كل ذلك، أمثلة على عدم الالتزام بالقواعد المهنية والأخلاقية لمهنة الإعلام.

ولعل إحدى هذه الحلقات في المسلسل الطويل من الانتهاكات هي واقعة “المذيع فارس”، هذا الطفل الذي لا يتجاوز الثالثة عشر من عمره. ويقوم الطفل “فارس مصطفى” بتقديم برنامجًا أسبوعيًا على قناة “الحدث اليوم”، وقد أثار هذا البرنامج جدلاً واسعًا عبر مواقع التواصل الاجتماعى، بسبب تناوله قضايا مجتمعية لا تتناسب مع القدرات الذهنية والعمرية لمقدم البرنامج، معتبرين أن ذلك يسيء إلى الإعلام، كما وُجهت انتقادات إلى القناة، لإتاحتها الفرصة لطفل كي يُحلل قضايا مجتمعية.

وتعود تفاصيل الواقعة –التي نحن بصددها اليوم- إلى أنه في الثالث عشر من شهر أكتوبر الجاري، بثت قناة الحدث اليوم، حلقة جديدة من برنامج ساعة مع فارس. وفي فقرة القضايا المجتمعية تناول الطفل فارس “قضية التحرش”، وبدأ “فارس” في إطلاق الأحكام المسبقة وإدانة المرأة في قضية التحرش، واعتبارها هي المسؤول الأساسي عن التحرش، بالإضافة إلى تبرئة المتحرش وتشجيعه على أفعاله.

 وقد قال الطفل في جزء من الحلقة فيما نصه “البنت أصلًا بتبقى لابسه الهدوم دي كلها وعامله في نفسها تسريحات شعر غريبة، ولابسة هدوم ضيقة تكشف جسمها كله، بهدف جذب الشباب إليها، وفي الآخر يلقى عليها اسم الضحية، مع إنها هنا هيه السبب الأساسي في عملية التحرش”. وذلك مما يتنافى مع كافة القوانين والمواثيق الدولية، ويتنافى مع المبادئ المهنية والأخلاقية لمهنة الصحافة والإعلام في الدفاع عن الفئات المستضعفة والمهمشة.

والمشكلة هنا لها أكثر من بعد، يتمثل البعد الأول في انتهاك قناة الحدث اليوم، للمواثيق والاتفاقيات الدولية وعلى رأسهم الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والإعلان العالمي لحقوق الطفل، واتفاقية حقوق الطفل في تشغيل طفل دون السن القانوني.

فقد نصت المادة 32 من اتفاقية حقوق الطفل على أن “تعترف الدول الأطراف بحق الطفل في حمايته من الاستغلال الاقتصادي، ومن أداء أي عمل يرجح أن يكون خطيرًا أو أن يمثل إعاقة لتعليم الطفل، أو أن يكون ضارًا بصحة الطفل أو بنموه البدني أو العقلي أو الروحي، أو المعنوي أو الاجتماعي، وتتخذ الدول الأطراف التدابير التشريعية والإدارية والاجتماعية والتربوية التي تكفل تنفيذ هذه المادة. ولهذا الغرض، ومع مراعاة أحكام الصكوك الدولية الأخرى ذات الصلة، تقوم الدول الأطراف بوجه خاص بما يلي:أ) تحديد عمر أدنى أو أعمار دُنيا للالتحاق بعمل. ب) وضع نظام مناسب لساعات العمل وظروفه. ج) فرض عقوبات أو جزاءات أخرى مناسبة لضمان بغية إنفاذ هذه المادة بفعالية”.

ويمتثل البعد الثاني في إرسال قناة الحدث لرسائل داخل المجتمع–على لسان الطفل فارس- تتنافي تمامًا مع المواثيق والاتفاقات الدولية. فما ذكره هذا الطفل ضد المرأة وتشجيع المتحرشين على ممارسة أفعالهم، يتنافى مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.

لقد نصت المادة الثانية من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أن “لكلِّ إنسان حقُّ التمتُّع بجميع الحقوق والحرِّيات المذكورة في هذا الإعلان، دونما تمييز من أيِّ نوع، ولا سيما التمييز بسبب العنصر، أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الدِّين، أو الرأي سياسيًّا وغير سياسي، أو الأصل الوطني أو الاجتماعي، أو الثروة، أو المولد، أو أيِّ وضع آخر”.

كذلك يتنافى -ما ذكره فارس- مع المادة السابعة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان التي نصت على أن “الناس جميعًا سواءٌ أمام القانون، وهم يتساوون في حقِّ التمتُّع بحماية القانون دونما تمييز، كما يتساوون في حقِّ التمتُّع بالحماية من أيِّ تمييز ينتهك هذا الإعلانَ ومن أيِّ تحريض على مثل هذا التمييز”.

وندين نحن: “المرصد المصري لحرية الصحافة والإعلام”، استغلال الطفل فارس من قبل قناة الحدث اليوم، وتشغيل هذا الطفل دون أن يكُمل السن القانوني الخاص بالعمل وفق القوانين والمواثيق الدولية، كما نشجب تحريض قناة الحدث والطفل”فارس”على المرأة واتهامها بشكل باطل، وتحريض المجرم “المتحرش” على ارتكاب جريمته، وانتهاك حقوق المرأة بشكل يتعارض مع المواثيق والقوانين الدولية والمحلية، ويتنافى مع  ميثاق الشرف الصحفي والإعلامي والمهني.

وفي إطار ذلك نقدم مجموعة من التوصيات التي نراها ضرورية لعدم تكرار مثل هذه الأحداث مستقبلًا:

  • الوقوف على تداعيات ما تم بثه في حلقة برنامج “ساعة مع فارس” سالفة الذكر، والتحقيق مع مسؤولي القناة والبرنامج، وكل من يتحمل مسؤولية التحريض على المرأة واستغلال الطفل فارس، على أن يكون ذلك بشكل متوازن لا يضر بتحقيق حرية الصحافة والإعلام، ولا يسمح للإعلاميين بانتهاك حقوق الآخرين.
  • نناشد المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، بضرورة اتخاذ الإجراءات والتدابير اللازمة بشأن حماية الحقوق والحريات داخل ما يتم بثه في وسائل الإعلام، وعدم السماح بانتهاك القوانين والمواثيق الدولية في ذلك الشأن.
  • على الجهات المعنية اتخاذ التدابير اللازمة لحماية الأطفال من استغلالهم من قبل مؤسسات إعلامية تبث أفكارًا -داخل المجتمع المصري- من شأنها تهديد أمن وسلامة المجتمع.
  • من ناحية ثانية، نناشد الصحفيين والمؤسسات الإعلامية ممارسة الدور الأصيل لمهنة الإعلام بالدفاع عن الفئات المستضعفة والمهمشة بدلًا من التحريض عليها.
  • من ناحية أخرى، فإننا ننادي بضرورة  تعزيز حرية الأطفال في التعبير عن أرائهم، ولكن بما لا يتناقض مع اتفاقية حقوق الطفل، التي كفلت حق الطفل في التعبير عن رأيه، لكنها وضعت محددات لذلك في المادة الثالثة عشر.

لقد نصت المادة 13 من اتفاقية حقوق الطفل على أن “يكون للطفل الحق في حرية التعبير؛ ويشمل هذا الحق حرية طلب جميع أنواع المعلومات والأفكار وتلقيها وإذاعتها، دون أي اعتبار للحدود، سواء بالقول، أو الكتابة أو الطباعة، أو الفن، أو بأية وسيلة أخرى يختارها الطفل، ويجوز إخضاع ممارسة هذا الحق لبعض القيود، بشرط أن ينص القانون عليها وأن تكون لازمة لتأمين ما يلي:أ) احترام حقوق الغير أو سمعتهم، ب) حماية الأمن الوطني أو النظام العام، أو الصحة العامة أو الآداب العامة”. ومن هذا الجانب نناشد نقابة الإعلاميين الاهتمام بالأطفال الإعلاميين وتدريبهم وتوعيتهم بطريقة تجعلهم قادرين على حماية أنفسهم من الاستغلال، والوقوع في أخطاء فادحة تخترق القوانين المحلية والمواثيق الدولية.

للإطلاع على الملف بصيغة بي دي إف اضغط هنا