ننشر رسالة الصحفي مصطفى الأعصر، بعنوان: “الموت “الاحتياطي” المستمر!”، في عيد ميلاده اليوم الموافق 10 يناير، والذي يكمل فيه عامه الـ28.

جدير بالذكر أن “الأعصر” أخلي سبيله في 7 مايو 2020، بضمان محل إقامته على خلفية الاتهامات الموجهة إليه في القضية رقم 441 حصر أمن دولة عليا، التي حٌبس احتياطيًا على ذمتها عامين، وقبل إنهاء إجراءات إخلاء سبيله، تم التحقيق معه على ذمة قضية جديد تحمل رقم 1898 لسنة 2019، ووجهت له تهمة الترويج لارتكاب جرائم إرهابية.

وإلى نص الرسالة:

أنا هنا دون الأصدقاء. الأصدقاء؛ هم لي وأنا لهم. أتذكرهم؟ أنساهم؟ التذكر يؤلمني والنسيان يطعنني في قدرة عقلي على الاستمرار والاحتفاظ بلحظات فارقة – حتى وإن كانت في نسق زمني غير متسق وغير متسلسل منطقيًا – لكن للعقل أساليبه الخاصة، وهيهات أن يتبع ما نريد.لحظات الذاكرة المغبَّشة ترهقني، كأن جزءً مني ينفصل عني وأتشبث به كي لا يلوذ بالفرار، واللحظات الواضحة الجلية تدميني كلكمة بيد حديدية على الوجه، أما تلك التي بين بين فتقتلني لأنها تذكّرني بحالي، أنا الذي وقعت في المنتصف، اللارابح واللاخاسر، اللاسعيد واللاتعيس، اللاحر واللامقيد، اللاحي واللاميت، الموجود على سبيل “الاحتياط”. أنا التجسيد الحي لحالة الميوعة المزعجة!

السجن يقتلنا بالبطيء، يفرّغنا من مضموننا الإنساني، في كل ليلة يمص من دمائنا قطرة، وفي الصباح يسحب من رئاتنا نفسًا، يأخذ من أقدامنا خطوة في كل مرة يمنعنا من الحركة، يأخذ من ألسنتنا الكلام في كل موقف نعجز فيه عن التعبير أو الشكوى أو الصراخ، يأخذ كل هذا ويمنحنا في المقابل الخوف والأرق والكوابيس والروماتيزم وخشونة المفاصل وضمور العضلات وخلل في المشاعر وبطء في التفاعل وتكلس في العقل وندبات في القلب لا يمحي آثارها الزمن، يسحب من عيوننا أشعة الضوء ومن رؤيتنا البصير، يجردنا من كل شيء عدا رطوبة الزنازين وقسوتها، يجرّد عقولنا من الذكريات والماضي والأفكار وكل الصور المخزَّنة سلفًا، يصبح العقل صندوقًا فارغًا، ويصبح الجسد جثة بلا روح. ينتشر الحزن في العقل كالسرطان، يستشري في كل خلية حتى ينسي تمامًا ماذا كانت تعني السعادة، حتى الضحك المسلوب قهرًا من شفاهنا يجعلني أتعجب لمَّ الضحك في خضم المأساة؟ وهل الضحك هو الدليل على السعادة والترادف المنطقي لها؟ مَن الغبي الأحمق الذي وضع هذه المعادلة السخيفة، قد نضحك لأننا -آسفين- أصبحنا لا نجيد البكاء.

ليست الأزمة في السجن فقط أننا نتعرى أمام أنفسنا وأمام الجميع بسهولة ويسر، ونظهر في تلك الصورة التي لا نرجوها لأنفسنا حتى نكره ذواتنا، إنما أنه لا سبيل لتقديم أنفسنا في صورة بديلة كما نحبها، وأنه لا وسيلة للهروب من هذا الواقع الدميم، فلا وسيلة فعالة لإلهاء العقل وانحراف مساره عن التفكير، فكلما حاولت الابتعاد وإلهاء ذاتك بأية وسيلة تافهة متاحة تصطدم أنظارك بالجدران والقضبان والأبواب الموصدة لتطرحك أمام حقيقتك المخوَّخة والممثَّلة في الضعف والعجز وانعدام المصير. لا إلهاء في السجن، تلك حقيقة يقينية كحقيقة الاحتباس الحراري، لا إلهاء ولا هرب، ليس ثمة طريقة غير المواجهة، والمواجهة لعدو لا نطيقه ولسنا أندادًا له تكسرنا في كل لحظة حتى لم يعد بنا ذرة صحيحة.

تجارب قليلة لا يعود الإنسان بعدها مثلما كان؛ أن يجرب الموت -مثلًا- في أحد أحبائه أو أن يعايش الموت -احتياطيًا- كسجين. وهذا الإنسان الجديد الذي يولد بعد انتهاء المحنة قد يعيش غربة أبدية عن ذاته ومجتمعه ومعارفه وأصدقائه، قد يواجه احتقار الذات التي افتضحت، وقد يختار الموت طوعًا كوسيلة فعالة للخلاص من السكاكين التي تمزقه، أو ينغمس شعوريًا وفكريًا بشكل جذري في كل تجربة آتية بلا أي تفكير نقدي كوليد يحبو نحو الحياة.

والأكيد أنه يُصاب بمرض البلادة وفرط الحساسية في نفس الوقت، ليصبح شخصًا غريبًا مزعجًا، صعب المراس، لا يجيد التعاملات الإنسانية، ولا يدري البشر العاديون كيف يسايرونه، فتتولد لديه رغبة جديدة في الانعزال والبُعد المضني، صراع جديد يمزقه إربًا. شيء أشبه بفيروس غريب يصيب المخ يمنعه من أداء وظائفه الإدراكية بالكفاءة المطلوبة، شيء أشبه بخطأ فادح في البرمجة الإنسانية.

إن التجارب النفسية المؤذية كخيط دخان من تبغ السجائر المحروق، قد تتلاشى في ثوانٍ إن تمكن الفرد من نفثها بعيدًا، لكن آثارها المدمرة تظل رغم ذلك عالقة به رغمًا عنه، كما يعلق الدخان بالرئتين والدماء والشعب الهوائية، وكما تعلق نكهته بالفم لتعلن بوضوح لكل غريب قادم عن تقرحات في جدار الروح. وكلما طالت مدة التجربة كلما ازداد الدمار. فرفقًا بنا، فنحن أكثر هشاشة مما نبدو، وربما في ذات الوقت نكون أكثر صلابة مما تظنون.

للأصدقاء أقول: “ألا زلتم تذكرونني في جلساتكم؟ لا أريد أن أخسر المقعد الأخير “.